بيان
رجوع إلى أمر النساء بذكر بعض آخر مما يتعلق بهن والآيات مع ذلك مشتملة على قوله: وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً فإنه أصل قرآني لحياة المرأة الاجتماعية.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم) إلى قوله: (كرهاً) كان أهل الجاهلية ـ على ما في التاريخ والرواية ـ يعدون نساء الموتى من التركة ـ إذا لم تكن المرأة اما للوارث ـ فيرثونهن مع التركة فكان أحد الوراث يلقي ثوباً على زوجة الميت ويرثها فإن شاء تزوج بها من غير مهربل بالوراث يلقي ثوباً على زوجة الميت ويرثها فإن شاء تزوج بها من غير مهربل بالوراثة وإن كره نكاحها حبسها عنده فإن شاء زوجها من غيره فانتفع بمهرها، وإن شاء عضلها ومنعها النكاح وحبسها حتى تموت فيرثها إن كان لها مال.
والآية وإن كان ظاهرها أنها تنهى عن سنة دائرة بينهم، وهي التي ذكرناها من إرث النساء فتكون مسوقة للردع عن هذه السنة السيئة على ما ذكره بعض المفسرين إلا أن قوله في ذيل الجملة: (كرهاً) لا يلائم ذلك سواء أخذ قيداً توضحياً أو احترازياً.
فإنه لو كان قيداً توضيحياً أفاد أن هذه الوراثة تقع دائماً على كره من النساء وليس كذلك، وهو ظاهر، ولو كان قيداً احترازياً أفاد أن النهي إنما هو إذا كانت الوراثة على كره من النساء دون ما إذا كان على رضى منهن، وليس كذلك.
نعم الكره امر متحقق في العضل عن الازدواج طمعاً في ميراثهن دائماً أو غالباً بعد القبض عليهن بالإرث فالظاهر أن الآية في مقام الردع عن هذا الإرث على كره وأما نكاحهن بالإرث فالمتعرض للنهي عنه قوله تعالى فيما سيأتي: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء الآية وأما تزويجهن من الغير الذهاب بمهرهن فينهى عنه مثل قوله تعالى: وللنساء نصيب مما اكتسبن (النساء: 32) ويدل على الجميع قوله تعالى: فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف (البقرة: 234).
وأما قوله بعد: ولا تعضلوهن لتذهبوا الخ فهو غير هذا العضل عن الازدواج للذهاب بالمال إرثاً لما في تذييله بقوله: لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن اهـ من الدلالة على أن المراد به الذهاب ببعض المهر الذي آتاه الزوج العاضل دون المال الذي امتلكته من غير طريق هذا المهر. وبالجملة الآية تنهى عن وراثة أموال النساء كرهاً منهن دون وراثة أنفسهن فإضافة الإرث إلى النساء إنما بتقدير الأموال أو يكون مجازاً عقلياً.
قوله تعالى: (ولا تعضلوهن لتذهبوا) إلى قوله: (مبيدنة) إما معطوف على قوله: ترثوا اهـ والتقدير: ولا أن تعضلوهن اهـ وإما نهي معطوف على قوله: لا يحل لكم اهـ لكونه في معنى النهي. والعضل هو المنع والتضييق والتشديد. والفاحشة الطريقة الشنيعة كثر استعمالها في الزنا. والمبينة المتبينة، وقد نقل عن سيبوية: أن أبان واستبان وبين وتبين بمعنى واحد، تتعدى ولا تتعدى يقال: أبان الشيء واستبان وبين وتبين ويقال: أبنت الشيء واستبنته وبينته وتبينته.
والآية تنهى عن التضييق عليهن بشيء من وجوه التضييق ليضطررن إلى بذل شيء من الصداق لفك عقدة النكاح والتخلص من ضيق العيشة فالتضييق بهذا القصد محرم على الزوج إلا أن يأتي الزوجة بفاحشة مبينة فله حينئذ أن يعضلها ويضيق عليها لتفارقه بالبذل، والآية لاتنافي الآية الاخرى في باب البذل: ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافاً ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به (البقرة: 229) وإنما هو التخصيص. تخصص هذه الآية آية البقرة بصورة إتيان الفاحشة، وأما البذل الذي في آية البقرة فإنما هو واقع على تراض منهما فلا تخصص بها هذه الآية.
قوله تعالى: (وعاشروهن بالمعروف) إلى آخر الآية المعروف هو الأمر الذي يعرفه الناس في مجتمعهم من غير أن ينكروه ويجهلوه، وحيث قيد به الأمر بالمعاشرة كان المعنى الأمر بمعاشرتهن المعاشرة المعروفة بين هؤلاء المأمورين.
والمعاشرة التي يعرفها الرجال ويتعارفونه بينهم أن الواحد منهم جزء مقوم للمجتع يساوي سائر الأجزاء في تكوينه المجتمع الإنساني لغرض التعاون والتعاضد العمومي النعي فيتوجه على كل منهم من التكليف أن يسعى بما في وسعه من السعي فيما يحتاج إليه المجتمع فيقتني ما ينتفع به فيعطي ما يستغني عنه ويأخذ ما يحتاج إليه فلو عومل مع واحد من أجزاء المجتمع غير هذه المعاملة، وليس إلا أن يضطهد بإبطال استقلاله في الجزئية فيؤخذ تابعاً ينتفع به ولا ينتفع هو بشيء يحاذيه، وهذا هو الاستثناء.
وقد بين الله تعالى في كتابه أن الناس جميعاً ـ رجالاً ونساءً ـ فروع أصل واحد إنساني، وأجزاء وأبعاض لطبيعة واحدة بشرية، والمجتمع في تكونه محتاج إلى هؤلاء كما هو محتاج إلى اولئك على حد سواء كما قال تعالى: بعضكم من بعض (النساء: 25)
ولا ينافي ذلك اختصاص كل من الطائفتين بخصلة تختص به كاختصاص الرجال بالشدة والقوة نوعاً، واختصاص النساء بالرقة والعاطفة طبعاً فإن الطبيعة الإنسانية في حياتها التكوينية والاجتماعية جميعاً تحتاج إلى بروز الشدة وظهور القوة كما تحتاج إلى سريان المودة والرحمة، والخصلتان جميعاً مظهراً الجذب والدفع العامين في المجتمع الإنساني.
فالطائفتان متعادلتان وزناً وأثراً كما أن أفراد طائفة الرجال متساوية في الوزن والتأثير في هذه البنية المكونة مع اختلافهم في شؤونهم الطبيعية والاجتماعية من قوة وضعف، وعلم وجهل، وكياسة وبلادة، وصغر وكبر، ورئاسة ومرؤوسية، ومخدومية وخادمية، وشرف وخسة وغير ذلك.
فهذا هو الحكم الذي ينبعث من ذوق المجتمع المتوسط الجاري على سنة الفطرة من غير انحراف، وقد قوم الإسلام أود الاجتماع الإنساني وأقام عوجه فلا مناص من أن يجري فيه حكم التسوية في المعاشرة وهو الذي نعبر عنه بالحرية الاجتماعية وحرية النساء كالرجال، وحقيقتها أن الإنسان بما هو إنسان ذو فكر وإرادة له أن يختار ما ينفعه على ما يضره مستقلاً في اختياره، ثم إذا ورد المجتمع كان له أن يختار ما يختار ـ ما لم يزاحم سعادة المجتمع الإنساني ـ مستقلاً في ذلك من غير أن يمنع عنه أو يتسبع غيره من غير اختيار.
وهذا كما عرفت لا ينافي اختصاص بعض الطبقات أو بعض الأفراد من طبقة واحدة بمزايا أو محرومية عن مزايا كاختصاص الرجال في الإسلام بالقضاء والحكومة والجهاد ووجوب نفقتهن على الرجال وغير ذلك، وكحرمان الصبيان غير البالغين عن نفوذ الإقرار والمعاملات وعدم توجه التكاليف إليهم ونحو ذلك فجميع ذلك خصوصيات أحكام تعرض الطبقات وأشخاص المجتمع من حيث اختلاف أوزانهم في المجتمع بعد اشتراكهم جميعاً في أصل الوزن الإنساني الاجتماعي الذي ملاكه أن الجميع إنسان ذوفكر وإرادة.
ولا تخص هذه المختصات بشريعة الإسلام المقدسة بل توجه في جميع القوانين المدنية بل في جميع السنن الإنسانية حتى الهمجية قليلاً أو كثيراً على اختلافها. والكلمة الجامعة لجميع هذه المعاني هي قوله تعالى: وعاشروهن بالمعروف على ما تبين.
وأما قوله تعالى: « فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً » فهو من قبيل إظهار الأمر المعلوم في صورة المشكوك المحتمل اتقاء من و تيقظ غريزة التعصب في المخاطب نظير قوله تعالى: قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعلمون (سبا: 25).
فقد كان المجتمع الإنساني يومئذ (عصر نزول القرآن) لا يوقف النساء في موقفها الإنساني الواقعي، ويكره ورودها في المجتمع ورود البعض المقوم بل المجتمعات القائمة على ساقها يومئذ بين ما يعدهن طفيليات خارجة لاحقة ينتفع بوجودها، وما يعدهن إنساناً ناقصاً في الإنسانية كالصبيان والمجانين إلا أنهن لا يبلغن الإنسانية أبداً فيجب أن يعشن تحت الأتباع والاستيلاء دائماً، ولعل قوله تعالى: فإن كرهتموهن حيث نسب الكراهة إلى أنفسهن دون نكاحهن إشارة إلى ذلك.
قوله تعالى: (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج) إلى آخر الآية الاستبدال استفعال بمعنى طلب البدل، وكأنه بمعنى إقامة زوج مقام زوج أو هو من قبيل التضمين بمعنى إقامة امرأة مقام اخرى بالاستبدال، ولذلك جمع بين قوله. أردتم وبين قوله: استبدال اهـ مع كون الاستبدال مشتملاً على معنى الإرادة والطلب، وعلى هذا فالمعنى: وإن أردتم أن تقيموا زوجاً مقام اخرى بالاستبدال.
والبهتان ما بهت الإنسان أي جعله متحيراً، ويغلب استعماله في الكذب من القول وهو في الأصل مصدر، وقد استعمل في الآية في الفعل الذي هو الأخذ من المهر، وهو في الآية حال من الأخذ وكذا قوله: إثماً، والاستفهام إنكاري.
والمعنى: إن أردتم أن تطلقوا بعض أزواجكم وتتزوجوا باخرى مكانها فلا تأخذوا من الصداق الذي آتيتموها شيئاً وإن كان ما آتيتموها مالاً كثيراً وما تأخذونه قليلاً جداً.
قوله تعالى: (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض) إلى آخر الآية الاستفهام للتعجيب، والإفضاء هو الاتصال بالمماسة، وأصله الفضاء بمعنى السعة.
ولما كان هذا الأخذ إنما هو بالبغي والظلم، ومورده مورد الاتصال والاتحاد أوجب ذلك صحة التعجب حيث إن الزوجين يصيران بسبب ما أوجبه الازدواج من الإفضاء والاقتراب كشخص واحد، ومن العجب أن يظلم شخص واحد نفسه ويؤذيها أو يؤذي بعض أجزائه بعضاً.
وأما قوله: « وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً » فالظاهر أن المراد بالميثاق الغليظ هو العلقة التي أبرمها الرجل بالعقدة ونحوه، ومن لوازمها الصداق الذي يسمى عند النكاح وتستحقه المرأة من الرجل.
وربما قيل: إن المراد بالميثاق الغليظ العهد المأخوذ من الرجل للمرأة من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان على ما ذكره الله تعالى، وربما قيل: إن المراد به حكم الحلية المجعول شرعاً في النكاح. ولا يخفى بعد الوجهين جميعاً بالنسبة إلى لفظ الآية.
م/ن
………………………………
مشكورة عالمرور